لمحة عن تاريخ الدير:
يقع دير سيدة البلمند على بُعد ثمانين كيلو متراً شمالي بيروت على تلّة مطلّة على البحر الأبيض المتوسّط.
هناك ازدهرت، منذ عشرة قرون حياة الدراسة والتعليم والصلاة. بنى الرهبان السّسترسيّون دير البلمند على أنقاض كنيسة بيزنطيّة. وقد تمّ ذلك سنة 1157 بعد فشل الحملة الصليبيّة الثانية.
ترك الرهبان السسترسيون دير البلمند قبل استيلاء السلطان المملوكيّ قلاوون على طرابلس عام 1289 بفترة قليلة. وبعد ثلاثة قرون على رحيل الصليبيين، عاد الأرثوذكسيّون إلى الدير ودخل رسمياً في عداد ممتلكاتهم.
انطلق الدير بعشر رهبان ما لبثوا أن أصبحو سنة 1610 خمسةً وعشرين راهباً. وكان الرهبان إلى جانب حياة الصلاة والعبادة، يعملون في الأرض ويكتبون المخطوطات وينسخونها ويستقبلون الضيوف أو الّلاجئين من الاضطهادات في الأوقات الصعبة.
خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر تملّك الدير أراضٍ في منطقة الكورة وطرابلس، وبات يشكّل مركزاً مهمّاً للإنتاج الزراعي. فكان رائداً في اختبار الزراعات المنتجة في المنطقة، وأهمّها الحرير والتبغ والقمح والزيتون، وتسويقها.
لفظة “البلمند” هي، على الأرجح، تعريب للفظة Belmont (البلمند)، أو بالأحرى Beaumont، كما كان يشار في البدء إلى دير رهبانيّة سيتو (Ordre de CIteaux)، وقد حُرِّفت في بعض الأحيان إلى لفظة (Valmont)، كما ورد في “حوليّات الأراضي المقدّسة”، (سنة ١١٦٩): “في مثل هذا العام أُنشِئ دير (Valmont)”. ونعثر على هذه اللفظة، أيضًا، في مخطوطات الدير، التي تعود إلى ما بعد ترميمه على يد الأرثوذكس، إلى القرن السابع عشر، وقد نقلتها هذه المخطوطات إلى العربيّة تحت لفظة “فَلَمَند” (Falamand).
هناك تفسيران آخران، أقلّ احتمالًا، يتعلّقان بتسمية الدير، يبرزان أصوله البيزنطيّة ويشدّدان على أصل تسميته الروميّ. فبرأي غطّاس قندلفت، مدير المدرسة الإكليريكيّة في الفترة الواقعة بين ١٨٩٩ و١٩١٤، فإنّ لفظة “البلمند” تُشتقّ من (Palia mandra) اليونانيّة، والتي تعني “الدير القديم”. أرثوذكسيّ آخر، وهو كاتب الحوليّات إلياس زريق، يحدّد أصل اللفظة بكلمة “فَرَمَند” ((Faramand اليونانيّة، والتي تعني “منارة الجبل”. وهذا يفترض وجود منارة للسفن في الأيّام الغابرة، الأمر الذي لا يشكّل بحدّ ذاته خصوصيّة إذ إنّ ديرًا آخر في المنطقة، هو دير النوريّة، يحمل هذه الميزة. ويبقى هذان التفسيران الأقلّ احتمالًا.
الإنشاءات السسترسيّة (القرنان12-13)
وهي وهي مرتّبة حسب مخطّط مشترك بين جميع الأديرة السسترسيّة حيث الأبنية تنتظم حول رواق يشكّل مركز الحياة الرهبانيّة ويمثّل هذا الرواق الأربع جهات العالم الأربع أو الإنجيليين الأربعة … لم يبقَ إلَّا ممشيان من هذا الرواق السسترسيّ.
الكنيسة
تحتل الطرف الشمالي للرواق وتتجه ناحية الشمال الشرقي. تتألّف من محراب كبير وصحن وحيد. إنها واسعة وتظهر الرصانة السسترسيّة القائمة على تناغم البناء في عراء المسطحات الجدارية العريضة وعلى رفض كل مجسمات أو منحوتات زائدة.
الجرسيّة (قبّة الجرس)
إنّها الجرسية الحجريّة الوحيدة من نوعها الباقية في الشرق كلّه. بناؤها مربّع ويبلغ علوّها 6.5 م. وتكمن فرادتها في العقد المُنضّد والقبّة التي تغطّيه.
القاعة الكبرى
تتّجه هذه القاعة (قاعة الرهبان) نحو الشرق ويعود بناؤها إلى منتصف القرن الثالث عشر.
القاعة المجمعيّة
وهي القاعة التي كان يجتمع الرهبان فيها لقراءة فصول في نظام رهبانيتهم. هي في الأصل ذات شكل مربّع مغطاة بتسع قناطر وزوايا بارزة محمولة على أربعة أعمدة قطر الواحد منها 21 سم. تحوّلت فيما بعد إلى كنيسة على اسم القدّيس جاورجيوس وقد زيد عليها محراب يعود إلى القرن السابع عشر.
المطبخ
إنّها قاعة مستطيلة جميلة تعود إلى القرن الثالث عشر، وهي ذات قنطرة نصف اسطوانيّة حادّة. أمّا على الحائط الغربي فهناك موقدة وثلاث مشاك استخدمت كأفران أو خزائن.
الإنشاءات الأرثوذكسيّة (من القرن 16 إلى القرن 20)
هذه الإنشاءات هي حديثة العهد نسبيّاً وتشكّل نوعاً من التكامل مع الأبنية السسترسيّة إنْ على مستوى مواد البناء المستعملة أو على مستوى الأحجام المزادة.
يمكننا تمييز ثلاث مجموعات تعود إلى حقبات تاريخية مختلفة وتعتمد أساليب هندسيّة متنوّعة:
الجناح الحلبيّ
بناه الأب فيلوثيوس عام 1652 عندما كان رئيساً للدير. كما نّه بنى المجاز أمام المدخل الرئيسي لكنيسة السيدة، وحوّل القاعة المجمعية إلى كنيسة (كنيسة القديس جاورجيوس حالياً)، ورتّب القبو بين الكنيستين.
يقع هذا الجناح في الطابق الأوّل ويتكوّن من قاعة كبيرة فيها ثماني قَلَالٍ.
الجناح البطريركيّ
يتألف من جناحين: الجناح الغربي المعروف بالبطريركي والجناح الشرقي. في عام 1713 حصل الأب ميخائيل، رئيس الدير آنذاك، على إذن ببناء الجناح الغربي الذي استُعمل كمدرسة إكليريكيّة من سنة 1833 حتّى 1843.
المدرسة (من القرن 19 إلى القرن 20)
آخر قسم أُضيف إلى الدير في القرن التاسع عشر هو بناء المدرسة الذي يحتلّ الجهة الجنوبيّة الغربيّة، ويقع في الطابق الأوّل. في سنة 1901 بنى رئيس الدير الأب اسطفان مقبّعة الدمشقي المهجع الكبير. ولقد رمّم الارشمندريت ملاتيوس قطّيني الدمشقي الكنيسة الكبيرة وبنى قاعة المطالعة الكبرى وذلك سنة 1903.
كان الدير وما زال مركز إشعاع للإيمان الأرثوذكسي منذ أربعة قرون، ذلك أنّه جمع وأنتج خلالها أيقونات ومخطوطات وأوان كنسية وثياب كهنوتية كثيرة إذ تزيّنت كل من كنيستيه بإيقونسطاس بهيّ وأيقونات تبرز تنوّع الأنماط.
المخطوطات:
في البلمند 170 مخطوطة تشكّل كنزاً روحياً وثقافياً ثميناً في التراث الأرثوذكسيّ الأنطاكيّ. ذلك أنّها تبرز ناحية هامّة من الحياة الرهبانيّة والرعائيّة السائدة آنذاك. تعود هذه المخطوطات بمعظمها إلى القرن 17 والقرن 19. أمّا تلك الأقدم والتي تعود إلى ما بين القرنين 13 و15 فتحوي كتابات متقابلة بالسريانيّة والعربيّة. أمّا المخطوطات المدوّنة باليونانيّة، فهي قليلة في البلمند على الرغم من الأولويّة المعطاة للّغة اليونانيّة بعد انشقاق سنة 1725.
والجدير بالذكر أنّ الأناجيل المصوّرة التي تعود إلى نهاية القرن 17 قد سُرقت سنة 1976 ولم يسترجعها الدير بعد.
أدوات طقسية
تشكل الأناجيل المطبوعة ذات التجليد الفضي وصلبان الزياحات وكؤوس المناولة والثياب الليتورجيّة المطرزة للأساقفة والكهنة، تعبيراً آخر عن الفنّ الديني في البلمند.
تعود معظم هذه الأدوات إلى القرن 17 إلّا أنّ ثمّة صليباً مشغولاً بورق الفضّة المطروق على قالب خشبي، أسلوبه غوطي من القرن 15، جيء به من قبرص حوالي سنة 1500.
المؤسسات البلمنديّة:
إنّ دير البلمند إذ يتجذّر في عمق أصوله أميناً لدعوته الأولى ينظر إلى رسالته المستقبليّة في التعميق الروحي والتنمية الثقافيّة في كلّ المشرق العربي. تتجسّد هذه الدعوة بشكل أساسي في المؤسسات التربويّة التي تجمّعت رويداً رويداً على هذه التلّة حول الدير وبمبادرة منه:
الثانوية
ارتبطت هذه المدرسة منذ تأسيسها سنة 1833 ارتباطاً وثيقاً بالدير وكانت توجد في حرمه. كان لها الدور الأكبر في إنشاء نخبة من الإكليركيين الأرثوذكسيين العرب الذين لعبوا دوراً أساسياً في حركة النهضة الدينيّة والثقافية التي عرفتها الكنيسة في بداية القرن العشرين.
في سنة 1963 شكّل مدير المدرسة رئيس الدير الأسقف إغناطيوس هزيم، لجنة من أجل بناء مدرسة تهتمّ بالتعليم الثانوي.
معهد اللاهوت:
افتتح المعهد أبوابه عام 1970 وتولّى إدارته سيادة المطران إغناطيوس، متروبوليت اللاذقيّة آنذاك. وفي السابع من شهر تشرين الثاني سنة 1971 دشّن المثلث الرحمات البطريرك الياس الرابع المعهد رسمياً.
يرتبط اسم معهد القديس يوحنا الدمشقي اللاهوتي بدير رقاد السيدة العذراء الشهير في البلمند، إذ يشكل المعهد تتويجاً فريداً لمحاولات التثقيف الديني التي عرفها الدير، منذ أن أسّس الارشمندريت أثناسيوس قصير الدمشقي أوّل مدرسة إكليريكية في الدير عام 1832 في عهد البطريرك الانطاكي مثوديوس، تجاوباً مع حاجة الكرسي الانطاكي لإعداد خدّام لمذبح الرب.
يتميّز المعهد في الوقت الحاضر بانخراطه العضوي في تكوين جامعة البلمند وحضوره على المنابر الأكاديمية اللاهوتية المرموقة في العالم. ويظهر دوره الكنسي وانفتاحه على محيطه الأوسع في حضوره الفاعل على المدى الأنطاكيّ في الوطن والانتشار والشهادة الكنسيّة في العالم، مع المحافظة على ميزته كصرح لإعادة إحياء التراث الكنسيّ الأنطاكيّ والتربيّة والتثقيف اللاهوتيين في هذا المشرق.
الجامعة
أسسها المثلث الرحمة البطريرك أغناطيوس الرابع السنة 1988. تحوي الجامعة 11 كليّة ومراكز للأبحاث والدراسات.
“.. ربمّا كان بإمكاننا أن نضع حجر الأساس في أي مكان آخر، ولكنّا غرسنا إياه هنا في البلمند يحمل معنى خاصاً بالنسبة إلينا. هذا الدير القديم الذي تقف أبنية الجامعة في ظلاله اليوم ما هو إلّا شهادة لهذا التقليد المسيحيّ العظيم الذي ورثناه وتذكير به. فكما أنّ الدير لا يزال يقرع أجراسه للصلاة، حيّاً ومحيياً بعد 800 عام، هكذا تستمرّ الحياة المسيحيّة فينا نحو الغد، وهي تهدي سبيل الأجيال القادمة إلى النور..”.
المثلث الرحمة البطريرك أغناطيوس الرابع


